حملة ماكرون على الإسلاموالمسلمين في فرنسا حقيقتها، أسبابها، آثارها
كوردی عربي English

اخبار رياضة المقالات اللقاءات اخبار فى صور فيديو نحن اتصل بنا
x

حملة ماكرون على الإسلاموالمسلمين في فرنسا حقيقتها، أسبابها، آثارها

 

الدكتور سليمان الشواشي

 

جاء في افتتاحية صحيفة(رأي اليوم) اللندنية تعليقا على حملة ماكرون على الإسلام والمسلمين بفرنسا قول كاتبها: منذ أن جاء ألرئيس الفرنسي ماكرون إلى قصر الإليزي وشغله الشاغل هو التطاول على الدين الإسلامي بطريقة استفزازية غير مسبوقة، وتضيف الصحيفة أن ماكرون يدعي أنه يفرق بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف ولكنه في واقع الأمر يعادي الإثنين ويتبنى تصنيع الخوف والاستثمار في (الإسلاموفوبيا)[1].

ويبدو أن الكاتب لم يجانب الصواب في قوله هذا ففي أحد أحياء ضواحي باريس ليل موروL’Ile)Moreau)وفي الثاني من شهر أكتوبر 2020 ألقى ماكرون رئيس الجمهورية الفرنسية خطابا شن فيه حملة شعواء على الإسلام قائلا: (إن الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم)، وأعلن في هذا الخطاب عن خطته التي جرى الحديث عنها مرارا لمحاربة (النزعات الانفصالية) في المجتمع الفرنسي وتتضمن هذه الخطة سن قوانين أكثر صرامة للتصدي لما سماه(الإسلام الانعزالي) وهذا القانون استغرق تحضيره أشهرا ويهدف حسب واضعيه إلى مواجهة التطرف الديني وفرض رقابة مشددة على الجمعيات الإسلامية والمساجد وحماية قيم الجمهورية الفرنسية وقد أطلق عليه مشروع قانون (الانفصال الشعوري)

وتتالت الأحداث فقد عرض معلم فرنسي أمام طلابه صورا كرتونية عارية للنبي محمد باسم حرية التعبير فقام مراهق شيشاني لاجئ في فرنسا بقتل المعلم فأجج هذا الحادث المروع نار الكراهية والعداوة للإسلام في نفس ماكرون مما دفع به إلى أن يصب جام غضبه على الإسلام والإسلاميين المتطرفين في حفل تأبين المعلم ومما جاء في هذا الخطاب قوله:( لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاترات وإن تقهقر البعض سنقدم كل الفرص التي يجب على الجمهورية أن تقدمها لشبابها دون تمييز وتهميش سنواصل أيها المعلم مع كل الأساتذة والمعلمين في فرنسا سنعلم التاريخ مجده وشقه المظلم وسنعلم الأدب والموسيقى والروح والفكر).

ووصف الرئيس ماكرون الفقيد صموئيل باتي بأنه أصبح (رمز الحرية)

وأكد على أنه لن يتنازل عن الرسوم الكاريكاتورية وسيأمر بنشرها في كل مكان بل وفرضها في التعليم الفرنسي وعلى المسلمين قبول ذلك لأن قانون البلد العلماني يسمح بالتطاول على الرموز الدينية.

ثم تعاقبت تصريحات المسؤولين الفرنسيين كوزير التعليم (Jean Michel Blanquer) والداخلية (Gerald Darmanin) -وهما من أشد المناصرين لمشروع ماكرون- وكانت جميعها لا تخلو من مفردات مشحونة بالكراهية ضد المسلمين في فرنسا كإطلاق مصطلح (اليسار الإسلامي)[2]و(الإسلام الراديكالي)[3]و(العدو في الداخل)وأن الإسلام يريد الاستحواذ على مستقبلنا و(إقامة نظام مواز) و(إنكار قيم الجمهورية)[4]إلى غير ذلك من الشعارات المثيرة لنزعة الكراهية والإسلاموفوبيا.

ويبدو أن ماكرون أراد من حملته هذه أن يشعر الفرنسيين أنه أكثر جرأة وحزما من الرؤساء السابقين الذين حاولوا وضع طابع فرنسي على الإسلام ولكنهم فشلوا في ذلك وأنه هو وحده القادر على إصلاح الإسلام وإدماج المسلمين في المجتمع الفرنسي فهو ينظر إلى الإسلام باعتباره دينا عنيفا وعدوانيا يشجع على الإرهاب وأنه إيديولوجيا سياسية لها أهداف محددة ثم إنه دين منفصل لا يحتوي على قيم يشترك فيها مع الثقافة والحضارة الغربيتين ومعنى ذلك أن الإسلام في نظره أحط منزلة من الغرب ولكنه يمثل خطرا عليه.

وهو في تصوره هذا يحمل نفس الأفكار التي طرحها عدد من المستشرقين والباحثين القدامى والجدد المتحاملين على الإسلام والمسلمين.فضلا عما طرحه هنتنغتونHuntington في كتابه (صراع الحضارات)

ولذلك فالإسلام في نظر ماكرون يحتاج إلى إصلاح وحركة تنوير وهنا تثار العديد من الأسئلة هل أن ماكرون مفكر أو مصلح ديني قادر على أن يطرح أفكاره للنقاش ومن خلالها يقع إصلاح الإسلام؟ أو أنها مجرد حملة انتخابية دعائية لا سيما وأنه في كل انتخابات تعود نفس المشكلة للطرح داخل المجتمع الفرنسي؟

ثم هل أن الإسلام فعلا في أزمة؟ أو أن ماكرون يعيش في أزمة سياسية واجتماعية ويريد أن يسقط أزمته على الإسلام؟

ونظرا إلى أن ماكرون لا يمتلك القدرات الفكرية والفلسفية لإصلاح الإسلام أو حتى التفكير الديني في الإسلام فضلا عن كون الإسلام لا يحتاج إلى إصلاح لأن المشكلة ليست في الإسلام وإنما في المسلمين[5]أي في فهمهم للإسلام فإنه قد انتهج منهج النائب عن الحزب الراديكالي (فردينانبويسّنFerdinand  Buisson)أحد كبار مهندسي قانون اللائكية الصادر سنة 1905وذلك بسن حزمة من القوانين تفرض على المسلمين أن يندمجوا في المجتمع الفرنسي بالمفهوم الفرنسي للاندماج وذلك بأن تكون عاداتهم وتقاليدهم وممارساتهم متطابقة مع قوانين الجمهورية وأهداف العلمانية أي أن يأكلوا كالآخرين وأن تلبس النساء المسلمات كالأخريات ويعتقدوا كالآخرين وهو ما يؤدي حتما إلى الابتعاد عن الدين وإخفائه من المشهد العام، وذوبانهم في المجتمع الفرنسي الذي معظمه لا دينيون أي لا يؤمن بأي دين من الأديان[6]

أما الاندماج بالمفهوم الأوروبي وذلك بأن تؤمن الجالية المسلمة بالمؤسسات الديمقراطية وبقوانين الجمهورية والميثاق الأوروبي للحقوق الأساسية واعتبارهم فرنسا وطنا جديدا لهم على الرغم منوجود تمييز عنصري ومحافظتهم على معتقداتهم الدينية فإن ذلك يعتبر في نظر اليمين واليمين المتطرف خيانة للجمهورية على الرغم من أن قانون اللائكية يضمن (حرية المعتقد للجميع)و(المساواة بين المواطنين) وكذلك المادة العاشرة في الميثاق الأوروبي للحقوق الأساسية تنص على ضمان حرية الفكر والاعتقاد والدين وعلى حرية إقامة شعائر أي من الديانات والمعتقدات ولكن المشكل في فرنسا هو ازدواجية المعايير عكس ما هو موجود في البلدان الأوروبية الأخرى.

ومعنى ذلك: أن ماكرون يريد من ثقافة الأقليات -عدا الثقافة اليهودية-أن تكون كيانا مجردا عن ممارسة الحياة في حين أن الثقافة في جوهرها أسلوب حياة وهذا ما يسمى (بالتهجين الثقافي Métissage) والذي مارسته فرنسا في مستعمراتها بصورة قسرية لإدماج الشعوب المستعمرة في الحضارة الغربية وهو ما تسعى إلى فرضه اليوم على الجالية المسلمة بفرنسا

ويبدو أن حديث ماكرون عن الإسلام حديث فارغ من المعنى لأنه لا يعرف بنية الإسلام العقدية ولا أسس نظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولا قيمه الروحية والخلقية والإنسانية وإنما الصورة التي يحملها عن الإسلام صورة مشوهة رسمها ونمّطها عدد من المبشرين والمستشرقين وازدادت تشويها بسبب الأحداث الإرهابية من قبل إعلام متحيز ومتأدلج والدليل على ذلك ادعاء ماكرون بأنه سيصلح الإسلام وسيطبعه بطابع فرنسي حتى يتماشى وقيم الجمهورية العلمانية.

أن الإسلام الذي ينوي ماكرون إصلاحه ليس دين دولة يختلف عن دولة أخرى وإنما هو دين كوني موحد وأنه يستحيل عقلا وواقعا أن يوجد إسلام فرنسي أو إسلام أمريكي أو إسلام صيني إلا إذا تخلت هذه المجموعات عن الإسلام تحت قوة قاهرة كما حدث للمسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة وبانتهاء الجماعة الدينية تنتهي ثقافتها وأسلوب حياتها.

وعلى الرغم من الاختلافات العرقية واللغوية والاجتماعية وحتى المذهبية بين الشعوب الإسلامية فإن الإسلام يجمعهم ويوحد بينهم على أساس نص مؤسس ومقدس وهو القرآن والسنة وتتجسد هذه الوحدة في مفهوم شامل وهو مفهوم (الأمة) فالإسلام إذن كل لا يتجزأوواحد وليس متعددا[7] وحقيقته لا تقبل التحليل.

ثم إن ماكرون لم يدُر بخَلده أن الإسلام بالنسبة للمسلم هو ثقافته وحضارته وبالأحرى فهو هويته ولا أدل على ذلك من الاستطلاع الذي أجرته مؤخرا مؤسسة إيفوب/IFOP والذي يبين أن نحو74% من المسلمين تحت سن 25عاما يقولون إنهم يضعون عقيدتهم في المقدمة مقابل قوانين الجمهورية الفرنسية[8]

وفي تقرير نشر سنة 2016عن المسلمين بفرنسا أعده معهد Institut Montaigne  طرح فيه حكيم القروي مؤلف التقرير سؤالا من أنا؟ فكان الجواب أن مسلم مضيفا أن هويتهم الدينية هي الأولى[9]

ثم إن الإسلام قد اصطدم على الصعيد التاريخي بالصليبيين وبالمغول وبالاستعمار وخرج منتصرا في معظم معاركه كما أنه قد اصطدم على صعيد الفكر بالزرادشتية وبالفلسفة اليونانية وبالغنوصية gnosticisme ومنذ القرن التاسع عشر وهو في صراع مع الحضارة الغربية إلى اليوم ولكنه لم يستسلم ولم يلق السلاح ولم تتخلخل بنيته أو يفقد روحه لأن له من المناعة ومن القدرة على النزال قلّ أن توجد في غيره من الأديان ومن اعتقد أن الإسلام مثل المسيحية وأن ما جرى على المسيحية من علمنة سيجري على الإسلام واهم لا محالة وثورات الربيع العربي خير دليل على ذلك .

وبهذا الاعتبار فإن الإسلام يتملك الصحة الجيدة وليس في أزمة كما ادعى ماكرون ولو قال إن المسلمين في أزمة لهان الأمر ولقبل منه ذلك

وللتأكيد على أن الصورة التي يحملها ماكرون عن الإسلام هي صورة استشراقية مشوهة هو أن عددا من هؤلاء المستشرقين أمثال أرنست رينانErnest RENAN(1823-1892) والأب لامانسLa Maness(1862- 1937)كانوا يقولون أثناء الحملة الاستعمارية الغربية على العالم الإسلامي أن الإسلام دين ركود وجمود وعلى المسلمين إذا أرادوا التقدم والانخراط في الحداثة الغربية أن يتخلوا عن الإسلام ويندمجوا في الحضارة الغربية ، واليوم يطلع علينا ماكرون بنسخة من مشروع الاستشراق الزائف غير أنه يختلف عنه في العنوان وهو أن الإسلام دين عنف وإرهاب ولكن الهدف واحد وهو إسقاط الإسلام إلى الأبد

وبهذا الاعتبار فإن الإسلام ليس في أزمة وإنما ماكرون هو المأزوموهنا لا بد أن نتساءل عن الأسباب التي دفعت بماكرون إلى القيام بهذه الحملة ضد الإسلام والمسلمين بفرنسا؟

هل كان سبب هذه الحملة مقاومة ظاهرة الإرهاب التي استشرى خطرها بفرنسا لا سيما وأنها قد ارتبطت بالمسلمين المهاجرين؟

أو أنها حملة سياسية دعائية لكسب أصوات الناخبين خاصة وأن اليمين المتطرف قد اتخذ من هذه القضية مركز الدائرة في حملته الانتخابية؟

أو أن السبب هو الخوف من انتشار الإسلام بين مختلف فئات المجتمع الفرنسي بما فيها ضباط من الجيش؟[10]

أو أن سبب هذه الحملة عجز فرنسا عن استئناف حركتها الاستعمارية في سوريا وليبيا وفي شرق المتوسط وانحسار نفوذها بسبب ظهور الإسلام السياسي في تركيا وفي غيرها من البلدان؟

أو أن هناك أسبابا تاريخية كالحروب الصليبية والحروب الاستعمارية والتي رسخت العداء بين الإسلام والغربحتى جعلت زعماء الدول الغربية وعلى رأسهم ماكرون يخشون من عودة الإسلام إلى التاريخ ولذلك عليهم ألا يغفلوا عن مقاومته وإبقائه على ما هو عليه من وهن وضعف؟

إذا نظرنا إلى هذه الأسباب نظرة موضوعية فإنه يتبين لنا أنه لا يمكن إرجاع ظاهرة كراهية الإسلام أو ما اصطلح عليه في الغرب (بالإسلاموفوفيا) عند ماكرون او عند اليمين الأوروبي بصفة عامة إلى سبب دون آخر وإنما ترجع إلى هذه الأسباب كلها التي تضافرت وتفاعلت كما تتفاعل العناصر الكيميائية فنتجت عنها هذه الظاهرة ولكن أكثرها تأثيرا في هذه العملية هما السبب التاريخي والسبب السياسي ولنبدأ ببيان السبب التاريخي:

إن التاريخ مقوم أساسي من مقومات الثقافة بل في كثير من الأحيان هو الذي يصنع ضمير الإنسان ويحدد توجهاته الفكرية ولذلك لابد من الانطلاق منه حتى ندرك مدى تأثيره في غرس الكراهية والعداوة بين المسلمين والمسيحيين.

إن أول سبب في العداوة بين الإسلام والمسيحية هو حروب الفتح ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب فتحت بلاد الشام فمصر ثم توالت الفتوحات من بعده حيث فتحت إفريقية فالأندلس وغيرها من البلدان الخاضعة للإمبراطورية البيزنطية وكان ذلك على حساب المسيحية لآن سكان هذه البلدان تخلوا عن المسيحية واعتنقوا الإسلام وهو ما خلق عداء وحقدا كبيرين في نفوس المسيحيين ضد المسلمين وظلت الحرب سجالا على الثغور بين العباسيين والبيزنطيين.

2- الحروب الصليبية: في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله(381-411هـ) الذي عرف بتعصبه الشديد للمذهب الفاطمي اضطهد أهل الذمة والمسلمين من غير الشيعة ودمر كنيسة القيامة التي تعد أقدس موقع مسيحي على الإطلاق فأثار هذا الفعل الطائش حفيظة المسيحيين واتخذه البابا أوربانوس الثاني Le Pape URBAIN(1042-1099) سببا لإشعال الحروب الصليبية وإن كانت هناك أسباب أخرى شجعتهعلى إقدامه على هذه الحرب ولكن المقام لا يتسع لذكرها.

فعقد مجمعا لرجال الدين في مدينة كلير مونت الفرنسية Clermontوأعلن حملته بدعوة ملوك أوروبا وأمرائها وجميع الفئات إلى المشاركة في حرب صليبية شعارها تخليص قبر المسيح من أيدي الكفار المسلمين مستخدما في ذلك خطبه الرنانة لإثارة المشاعر الدينية لدى العامة قال عنه غوستاف لوبون: إن دعوته إلى الحروب الصليبية نوبة حادة من الجنون وانطلق الصليبيون من فرنسا كالجراد لا يبقون على شيء والحقيقة أن هذه الحملة لم تكن تهدف إلى تخليص قبر المسيح فحسب وإنما كان هدفها تدمير الإسلام وإبادة المسلمين وهو ما عبر عنه المستشرق الإنجليزي غاردنرGardner بأن الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس وإنما كانت لتدمير الإسلام[11]

ففي ساحة القدس قتل ما ينوف عن سبعين ألف ذكر السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) (وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج بيت المقدس بعد حصار شهر ونصف وقتلوا بها أكثر من سبعين ألف منهم جماعة من العلماء والعباد والزهاد وهدموا المشاهد وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم)[12] واستمرت هذه الحملات قرنان من الزمان (1096-1291م)ذهب ضحيتها ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين نسمة وكانت وبالا على العالم الإسلامي قضت على موارده المادية و والبشرية وشغلته عن العلوم والمعارف والعمران وكانت سببا من أسباب تأخره وانحطاطه.

وعلى الرغم من فظاعة هذه الحروب فإن الزائر إلى البلدان الأوروبية يجد عواصمها مزدانة بتماثيل الملوك والأمراء الذين شاركوا في هذه الحروب تخليدا لذكراهم وتمجيدا لبطولاتهم.

3-حروب الاسترداد:في هذه الفترةتقريبا بدأت حروب الاسترداد وتتمثل هذه الحروب في زحف ممالك إسبانيا بعد انهيار خلافة بني أمية سنة ( 423هـ=1031م)على جنوب الأندلس بدعم وتأييد من البابوية ومن ممالك أوروبا ولا سيما في المعركة الشهيرة معركة (العُقاب) سنة 609هـ= 1212م التي انهزم فيها الموحدون وعلى أثرها انفتح البا ب على مصراعيه للزحف المسيحي على بقية الممالك الإسلامية والتي كانت آخرها مملكة غرناطة (898هـ=1492م)

وقد شهدت هذه الحروب تعصبا دينيا محموما تعرض فيه المسلمون إلى أبشع أنواع الاضطهاد حيث نصبت لهم محاكم التفتيش للتأكد من اعتناقهم المسيحية اعتناقا صادقا أو انه تقية وأما الذين تشبثوا بمعتقداتهم فقد هُجّروا هم واليهود في أسوأموجة من التهجير القسري في التاريخ.

4-فتح القسطنطينية: كان رد الفعل على الحروب الصليبية وحرب الاسترداد فتح القسطنطينية سنة 857هـ=1453م على يد محمد الفاتح وكان هذا الفتح صدمة كبرى للأمم الأوروبية المسيحية لأن القسطنطينية رمز من رموز الديانة المسيحية بناها قسطنطين الكبير نذرا إلى مريم العذراء ومن ثم صارت لها صبغة قدسية عند المسيحيين.

فعقدت العزم على مراجعة أسباب الهزيمة لرد التحدي وهو ما نظّرله أرلوند توينبي Arnold Joseph TOYNBEEفيما بعد بنظرية (التحدي والاستجابة).

5-الحروب الاستعمارية:لم تمض ثلاثة قرون ونصف القرن حتى تمكنت أوروبا من غزو العالم الإسلامي من جديد وتعريضه إلى نفس الصدمة التي تعرضت إليها.

فقد حمل نابليون الأول على مصر سنة 1798م كما احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م وسيطرت إنجلترا على دلهي سنة 1803مالتي كانت تابعة للإمبراطورية المغولية فعدن سنة 1839م ثم تخلصت من الحكم المغولي نهائيا واستولت على الهند سنة 1854م وبدأ الاستعمار الغربي المتمثل في قوتين عظيمتين هما إنجلترا وفرنسا تتدخلان في شؤون الدولة العثمانية المتزعمة للعام الإسلامي وتنتزعان المقاطعات التابعة لها الواحدة تلو الأخرى.

وبذلك ابتدأت مرحلة تاريخية جديدة وهي المرحلة الاستعمارية وهذه المرحلة وإن كان الدافع إليها في الظاهر النهضة الصناعية التي تحتاج إلى المواد الأولية والأسواق والسيطرة على طرق التجارة العالمية فإن هدفها الأساسي تدمير الإسلام وتنصير المسلمين.

وبذلك فقد كانت الحروب الاستعمارية إحياء للحروب الصليبية وانتقاما من الإسلام والمسلمين.

فهذا نابليون الأول (1769 -1821)المعروف بإلحاده وسخريته من البابا والقساوسة عندما استولى على مصر والشام أراد أن يذكّر جنوده بالتاريخ المجيد للصليبينحيث اتخذ مركزا له في دير الناصرة بفلسطين وقرأ على ضباطه الكتاب المقدس في تلك البقاع التي عاش فيها السيد المسيح وحواريوه وفي ذلك تحريك لمشاعر الجنود الفرنسيين المنتمين في أغلبهم إلى طبقة الفلاحين المتدينين وتذكير لهم ببطولات أجدادهم وتضحياتهم في سبيل نصرة المسيح والمسيحية وفي النهاية ظهر نابليون بمظهر القائد الصليبي والخصم التاريخي للإسلام والمسلمين.

وعندما احتل الجيش الفرنسي الجزائر احتفل ملك فرنسا شارل العاشر بهذا النصر واضعا إياه في سياقه التاريخي وهو أنه حملة من الحملات الصليبية الناجحة جاء في خطاب العرش يوم 2مارس 1830قوله: إن الحرب على الجزائر ليست للانتقام من الإهانة التي لحقت الشرف الفرنسي فحسب بل إنما هي حملة مسيحية جديدة على بلاد البرابرة المسلمين وأنها في صالح العالم المسيحي.[13]

كما أكد على طبيعة هذه الحرب الصليبية وزير الحربية الفرنسية الكونت كلير مونت Le comte de Clermontقائلا:إنها حرب صليبية هيأتها العناية الإلهية لينفذها الملك الفرنسي الذي اختاره الله ليثأر من أعداء الدين والإنسانية[14]

ومنذ احتلال الفرنسيين للجزائر وهم في حرب لا هوادة فيها ضد الإسلام دينا ولغة وثقافة وحضارة

ومن أبرز الحوادث التاريخية في هذا الصدد حادثة جامع كتشاوة وهو من أشهر المساجد التاريخية بالعاصمة الجزائرية بناه حسن باشا في العهد العثماني سنة 1794محوّله الدوق روفيقوDuc de ROVIGO[15]إلى كنيسة في عهد الاحتلال الفرنسي بعد أن أخرج جميع المصاحف الموجودة فيه إلى ساحة الماعز المجاورة التي صارت فيما بعد تحمل اسم ساحة الشهداء وأحرقها عن آخرها فكان منظرا أشبه بمنظر إحراق هولاكو للكتب في بغداد عندما اجتاحها وقد قام الجنرال روفيقو بعد ذلك بتحويل الجامع إلى اصطبل بعد أن قتل من فيه من المصلين ما يفوق عن 4000مسلم كانوا قد اعتصموا فيه احتجاجا على قرار تحويله إلى كنيسة وكان يقول (يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه إله المسيحيين ثم هدم المسجد وأقيم مكانه كاتدرائية حملت اسم سانت فليب وصلى المسيحيون فيها أول صلاة ليلة عيد الميلاد 24ديسمبر 1832

فبعثت الملكة زوجة لويس فليب هداياها الثمينة للكنيسة الجديدة أما الملك فأرسل الستائر الفاخرة وبعث البابا غريغوري السادس تماثيل للقديسين وفي حفل تدشين الكنيسة رفع العلم الفرنسي بمحاذاة الصليب في موكب رسمي حضره القائد الأعلى للقوات الفرنسية معلنا بذلك تلاحم الكنيسة مع الدولة في الحملة الاستعمارية على الجزائر [16]وبعد الاستقلال تم استرجاعه وتحويله إلى مسجد.

ويبدو أن فرنسا لم تحقق هدفها المنشود وهو اقتلاع الإسلام من الجزائر فبعد قرن من الزمن أعلن الحاكم العام الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة سنة على احتلال الجزائر(يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم)[17]

كما سلكت فرنسا في تونس نفس السياسة الاستعمارية التي سلكتها في الجزائر فقد تحالفت مع الكنيسة على تحقيق مشروعهما المشترك وهو أن الجزائري أو التونسي لا يمكن أن يكون فرنسيا إلا إذا كان مسيحيا وهو ما عبر عنه (الأب بونس) حين قال: (يجب على فرنسا إذا شاءت أن يدوم نفوذها وترسخ قدمها في هذه الأقطار أن تنصر الشمال الإفريقي)[18]

وتبعا لهذه السياسة فقد وفرت السلطة الاستعمارية في تونس كل الإمكانات للمبشرين وعلى رأسهم الكاردينال لافجريCardinal Lavigerieالمعروف بسعيه الحثيث إلى إحياء كنيسة قرطاج ذات التاريخ المجيد وإعادة الأهالي إلى المسيحية كما كانوا في العهد الروماني لا سيما وأن المبشرين كانوا يعتقدون أن الإسلام مجموعة من الخرافات والأوهام وأنه سيذوب أمام نور المسيحية كما يذوب الثلج عندما تشرق عليه الشمس.[19]

فأنشأ لافجري المدارس في طولا البلاد وعرضها وعهد بالتدريس فيها إلى الرهبان والراهبات باعتبار أن التعليم أفضل وسيلة للوصول إلى قلوب التلاميذ.

وتأكيدا للحضور المسيحي بتونس انعقد المؤتمر الأفخرستي بضاحية قرطاج بتونس سنة 1930وهو عبارة عن تظاهرة مسيحية عالمية عادة ما تقام في بلد مسيحي ولكن النزعة الاستعمارية المسيحية أبت إلا أن تبرز وجودها المسيحي في الجزائر وتونس إحياء لذكرى احتلال الجزائر وبعثا لكنيسة قرطاج فعقد هذا المؤتمر بتشجيع ودعم ليس من السلطة الاستعمارية في تونس فحسب وإنما من قبل الحكومة الفرنسية وعندما أبدت المعارضة الفرنسية امتعاضها من هذا الدعم لأن الدستور الفرنسي ينص على لائكية الدولة رد رئيس الجمهورية الفرنسية على ذلك بقوله :(إن فرنسا لائكية في بلادها مسيحية في مستعمراتها)[20]

وليست هذه النزعة العدائية للإسلام والمسلمين خاصة بالفرنسيين الكاثوليك وإنما تشمل الغرب المسيحي برمته فالإنجليز البروتستانت يحملون نفس الكراهية والعداء للإسلام والمسلمين ويظهر ذلك في ممارساتهم الاستعمارية في البلدان العربية والإسلامية من ذلك أن وزير المستعمرات البريطانيقلادستونGLADSTONE (1809-1898) والذي تولى رئاسة الحكومة البريطانية عدة مرات تمكن في إحداها من احتلال مصر،خاطب النواب في مجلس العموم البريطاني قائلا:(مادام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلته بالمسلمين)[21]

ولم تكن عداوة الإسلام والمسلمين خاصة برجال الدين المسيحي أو بالسياسيين وإنما كانت منتشرة لدى النخب من المستشرقين والفلاسفة إلا ما ندر فهذا ليبنتزLIBNIZ(1646-1716) دعا ملك فرنسا لويس الرابع عشر إلى فتح مصر وتدمير القوة التركية بحجة القضاء على أعداء الثقافة الحديثة كما حرض بطرس الأكبر قيصر روسبا على الدولة العثمانية[22] وانتهج هيجل (1770-1831) الذي يعد من أعظم فلاسفة الغرب في العصر الحديث منهجه حيث دعا إلى ربط شمال إفريقيا بالحضارة الغربية كما كان في السابق مرتبطا بالحضارة الرومانية ففي كتابه (محاضرات في فلسفة التاريخ)[23] يقول: (والجزء الشمالي من إفريقيا وهو إقليم رائع توجد فيه قرطاجنة فيما مضى وتوجد فيه الآن مراكش الحديثة والجزائر وتونس وطرابلس ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوروبا ولا بد بالفعل أن يرتبط بها ولقد بذل الفرنسيون أخيرا جهودا ناجحة في هذا الاتجاه)

أما موقف معظم المستشرقين من الإسلام فهو معروف ولا يحتاج إلى بحث أو بيان لأن هذا الموقف قد حددته نشأتهم وطبيعة عملهم وغايتهم وهي محاربة الإسلام بالافتراء عليه وتشويه حقائقه ووضع الحواجز بينه وبين الغرب فانكبوا على دراسة ثقافة الشعوب المستعمرة لتقديم المعلومات الضرورية للمستعمر ولذلك اشتغل الكثير منهم كمستشارين لدى وزارات الخارجية في الدول الاستعمارية وبمرور الزمن تكاثر عددهم وتنوعت أفكارهم ولكنها كانت تصب في مصب واحد وهو إفساد الإسلام وتشويه مبادئه وإضعاف قيمه الروحية والخلقية وفي الآن نفسه تمجيد القيم المسيحية والحضارة الغربية حتى يندمج المسلمون في الحضارة المسيحية الغربية.

ولعل أكثرهم تعصبا وأشدهم حقدا على الإسلام والمسلمين المستشرقون الفرنسيونلأن فرنسا تعتبر البنت البكر للكنيسة الكاثوليكية ولذلك تزعمتالحملات الصليبية وظلت هذه النزعة الصليبية متقدة في نفوس الفرنسيين رغم ما حدث فيها من تطور إلى اليوم ومن بين هؤلاء المستشرق الفرنسي (كيمون)الذي قال عن الديانة المحمدية في كتابه (باثالوجيا الإسلام)(إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس وأخذ يفتك فتكا ذريعا بل مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمر ويجمح في القبائح وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع العامة والذهول العقلي وتكرار لفظة (الله)إلى ما لانهاية والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصيلة ككراهية لحم النزير والنبيذ والموسيقى وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات)

وقال أيضا:(أعتقد أن من الواجبات إبادة خمس المسلمين والحكم على الباقين بالأعمال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر)[24]

ومن سنن الكون التغير والتبدل واستحالة الثبات والاستقرار وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران آية 140وأيضا ما تضمنته الحكمة العربية (دوام الحال من المحال)

6- الحروب التحريرية: تبعا لهذه السنة فإن الشعوب العربية الخاضعة للاستعمار قد سئمت القهر والذل والإذلال وقررت أن تأخذ حريتها وتستعيد كرامتها فأعلنت ثورتها على الاستعمار وكانت أكثر الثورات العربية دماء ثورة الجزائر إذ استشهد فيها أكثر من مليون ونصف المليون وهو ما زاد في تعميق العداء والكراهية بين الإسلام والغرب وحفر أخاديد في الذاكرتين الإسلامية والمسيحية ليس من السهل إزالتها ومحوها ولعل متحف الجماجم في باريس خير شاهد على ذلك.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ازدادت العلاقة سوءابين الإسلام والغرب بسبب الحروب العربية الإسرائلية وبخاصة حرب جوان 1967 والتي اتخذت فيها الدول الغربية وأمريكا موقفا مناصرا لإسرائيل ففي فرنسا مثلا خرجت مظاهرات أثناء الحرب في باريس تحمل لافتات كتب عليها (قاتلوا المسلمين)كما نظمت حملة لجمع التبرعات لإسرائيل بلغت قيمتها ألف مليون فرنك خلال أربعة أيام.[25]

ولم يكن هذا الموقف خاصا بالجماهير الشعبية التي كثيرا ما تتأثر بوسائل الإعلام وإنما كان موقف عدد كبير من المفكرين والصحافيين والفنانين ومن بينهم الفيلسوف جون بول سارتر الذي شارك في المظاهرات المؤيدة لإسرائيل معلنا تضامنه المطلق معها وهو ما دفع الكاتب السياسي المصري لطفي الخولي إلى أن يجري معه حوارا [26]مستفسرا إياه عن سبب معارضته لأمريكا في حرب فيتنام وتأييده لإسرائيل في حربها ضد العرب؟ أجاب بكل صراحة قائلا: كيف أنسى الحروب الصليبية؟ كيف أنسى فتح القسطنطينية؟ كيف أنسى حرب الجزائر؟

ولكن الغريب في الأمر أن فيلسوفا مثل سارتر قد قرأ التاريخ قراءة نقدية وأدرك حق الإدراك ما وراء التاريخ فضلا عن كونه باحثا عن الحقيقة وساعيا إلى إبرازها بغض النظر عن كونها مخالفة لهواه أو مطابقة له يعجز عن الخروج من هذا الكهف المظلم كهف الكراهية والحقد على الإسلام والمسلمين إلى أفق أرحب أفق التعاون والأخوة الإنسانية فما بالك بالساسة أمثال ماكرون وغيره وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تجمع العقد الموروثة عقد التعصب التي يحملها معظم مفكري الغرب فضلا عن السياسيين ضد الإسلام والمسلمين حتى أصبحت ضمن تركيبتهم العضوية حسب قول غوستاف لوبون[27]

ثم الأغرب من ذلك أن سارتر فيلسوف وجودي ملحد ولكنه وقف إلى جانب إسرائيل الدولة اليهودية القائمة على أساطير التوراة والخاصة بشعب الله المختار ولكن ما دام الأمر يتعلق بحقوق العرب والمسلمين فإن المعايير تنقلب رأسا على عقب وتصبح مزدوجة ولا يستطيع أحد أن يعترض على ذلك لا سيما والطرف الأضعف هو العرب والمسلمون.

وما الرئيس ماكرون إلا أحد هؤلاء الحاملين لهذا التراكمات التاريخية والتاريخ كما ذكرنا آنفا هو أحد المقومات الأساسية للثقافة ولذلك فحديث ماكرون عن الإسلام ليس من فراغ وإنما هو نابع من ثقافته التي تشبع بها وهي عبارة عن مجموعة من القيم التي يؤمن بها ويسعى إلى تحقيقها من خلال سلوكه وتصرفاته.

وقد أدرك المؤرخ الفرنسي ألان روسيو بحكم معرفته التاريخية حقيقة هذا الصراع وهو أنه صراع ديني محض ولكنه اصطبغ بصبغة سياسية قائلا: (إن العداء الممنهج للإسلام متجذر تاريخيا في الفكر الغربي وأن جوهره الديانة المسيحية ومنبعه روح الحروب الصليبية وأن هذا العداء ازدهر أثناء التوسع الاستعمار واستعاد قوته مع الحرب على الإرهاب)[28]

وما من شك فإن لكل ثقافة خصائصها ومميزاتها ولعل أبرز ما يميز الثقافة الفرنسية أنها ثقافة مادية إلحادية فقد تمخضت عن الثورة الفرنسية عملية قيصرية مؤلمة تم فيها فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن الأخلاق وفصل الدين عن الحياة وتأسست بمقتضاها علمانية يعقوبية متطرفة وبذلك جعلت حدا للصراع المرير الذي كان سائدا في أوروبا بين الدين والفلسفة بين الدين والعلم بين الدين والدولة وأصبح الإنسان الغربي المعاصر حسب قول مالك بن نبي ممتلئا بذاته حتى أنه لم تبق فيه مساحة للغيبيات.

ولكن المشكلة لم تنته عند هذا الحد فرغم صدور قانون اللائكية سنة 1905الذي يفصل بين الدولة والكنيسة فصلا تاما من أجل تحقيق (حرية المعتقد للجميع) و(المساواة بين المواطنين) مهما كانت انتماءاتهم الدينية والتزام الدولة بالحياد وبالاستقلال عن أي إكليروس فإن اللائكية ظلت محل تجاذبات فكل طرف سياسي أو اجتماعي أو إيديولوجي أو ديني يحاول تغليب مبدأ على المبادئ الأخرى [29]

وبسبب هذا التجاذب صارت مشكلة الدين مشكلة مزمنة قائمة الذات إلى اليوم وليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إن المشكلة الدينية في فرنسا تحولت إلى عقدة اسمها عقدة الدين وباتت الشغل الشاغل لدى نخبها وعند أصحاب القرار سواء من اليمين أو اليسار وكانت تثار في كل انتخابات رئاسية أو تشريعية ولذلك لا نستغرب أن تثار اليوم ولا سيما بعد أن تكاثر عدد المسلمين بفرنسا وبروز ظاهرة الإرهاب.

ولكن اللافت للنظر أن الدول الأوروبية ولا سيما البروتستانتية منها كألمانيا وإنجلترا لم تشهد هذا الصراع ولا توجد فيها هذه المشكلة فلم يمنع الحجاب بها ولم يقع التضييق على المسلمين في ممارسة شعائرهم الدينية كما وقع في فرنسا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد من أكثر الدول علمانية لم يحدث فيها توتر بين الدين والدولة بل طبقت على الدين مبدأ الليبرالية الاقتصادية وهو اقتصاد السوق أي جعل الدين أشبه شيء بالسوق قاعدته العرض والطلب ولذلك ابتكر علماء الاجتماع بالولايات المتحدة مصطلحا جديدا وهو(السوق الدينية)

في هذا الجو المتأزم حول المسألة الدينية والمتلبد بالخوف من الإسلام والتشدد الديني وأسلمة أوروبا يظهر الرئيس الفرنسي ماكرون وهو يجر وراءه إرثا تاريخيا مليئا بعقد التعصب الديني وكراهية الإسلام وإرثا ثقافيا يعادي الدين ويحاربه حربا لا هوادة فيها حماية للعلمانية وقيم الجمهورية.

فماذا عساه أن يفعل؟

إن الرئيس الفرنسي ماكرونلم يكن أسيرا للعامل التاريخي والثقافي في تحديد موقفه من الإسلام والمسلمين في فرنسا فحسبوإنما كان محكوما أيضا بعامل سياسي لا يقل أهمية عن العامل السابق ويمكن توضيح هذا العامل فيما يلي:

1-وجودعداوة تقليدية من اليمين ولا سيما المتطرف منه (الجبهة الشعبية)ضد المهاجرين المسلمين والتي كثيرا ما تصمم هندستها السياسية في كل حملة انتخابية على أساس هذه العداوة بهدف غلق باب الهجرة في وجوههم غلقا نهائيا والتضييق على المقيمين منهم حتى يعودوا إلى بلدانهم مستغلين في ذلك تمسك هذه الفئة بممارسة شعائرها الدينية وتشبثها بعاداتها وتقاليدها وهو ما اعتبر في نظرهم انفصالا عن المجتمع وتهديدا للهوية الوطنية ولم يشفع لهم ماضيهم وهو أن بلدان المغرب العربي التي هاجرت منها الجالية المسلمة إلى فرنسا قدمت ضريبة دم باهظة دفاعا عن فرنسا على امتداد سنوات الحرب الكونية أكثر من مائة ألف قتيل[30] ولا إسهام آبائهم وأجدادهم  في بناء الاقتصاد الفرنسي[31]وزاد الأمر ضغثا على إبالة كما يقول المثل العربي أي بلية على بلية في السنوات الأخيرة عندما تعرضت فرنسا إلى حوادث إرهابية حيث ارتفع منسوب الكراهية للإسلام والمسلمين وانتشرت ظاهرة التمييز العنصري على نطاق واسع فقد كشف استطلاع للرأي نشره معهد إيفوبIFOP أن 42%من المسلمين الذين يعيشون في فرنسا يؤكدون أنهم تعرضوا خلال الخمس سنوات الأخيرة إلى شكل من أشكال التمييز المرتبط بسبب ديانتهم.

أما النساء المتحجبات فهن أكثر عرضة للتمييز فبحسب هذا الاستطلاع أن 60 %من النساء المتحجبات تعرضن للتمييز مرة واحدة على الأقل مقابل 44% بحق مسلمات غير متحجبات [32]

وأما م نجاح اليمين المتطرف في استقطاب الناخب الفرنسي وتأييده له لم يجد ماكرون منفذا سوى تبني مفردات خطاب اليمين المتطرف وشن حملة شعواء على الإسلام والمسلمين والإعلان عن تقديم مشروع قانون يلجم الإسلام الراديكالي وبذلك يسحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف ويكسب أصوات الناخبين.

2-قيام وسائل الإعلام الفرنسية بحملة إعلامية ضارية ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا

لئن اتخذ الإعلام في الغرب وأمريكا الإسلاموفوبيا نقطة انطلاق له منذ الثورة الإيرانية وتنامي الإسلام السياسي فإنه قد ازداد حدة بعد ظهور الحركات الدينية المتشددة كالقاعدة وداعش وصارت ظاهرة الخوف من الإسلام آلية دفاعية نفسية تنتشر عبر وسائل الإعلام انتشار الفيروس وأصبحت الصور الإعلامية السلبية للإسلام والمسلمين اللبانة التي لا يمل مضغها وزاد في إذكاء الخوف من الإسلام صموئيل هنتنغتون عام 1993عنما نشر كتابه (صراع الحضارات)

ولم يخرج الإعلام الفرنسي عن هذه الجوقة فكان يركز على العمليات الإرهابية التي يقوم بها إسلاميون أكثر من العمليات التي يقوم بها غيرهم كما أنه كانكثيرا ما يتناول وضعية المرأة وتعدد الزوجات والثقافة الإسلامية وأنها ثقافة حسب زعمهم مختلفة ومتطرفة ويتعدى الأمر إلى تصوير الإسلام على أنه يهدد الثقافة الغربية

وقد استغل الإعلام العمليات الإرهابية التي حدثت في فرنسا استغلالا فاحشا حيث تعمد الخلط بين الإسلام كدين ومعتقد ينبذ العنف ويحرم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض وبين الحركات الإسلامية المتطرفة التي تتخذ العنف وسيلة لتحقيق مآربها وهو ما يرفضه المسلمون قاطبة سواء بفرنسا او في بقية بلدان العالم الإسلامي

وأظهر الإعلام تحيزه لليمين تحيزا كاملا فكان التنميط والمعلومات الخاطئة وطمس الحقائق منهجه وديدنه ولإضفاء صبغة معقولية على مقولاته كثيرا ما يستند إلى بعض المفكرين الذين يتمتعون بشهرة واسعة أمثال باسكال بروكنير[33]Pascal BRUCKNERالمعروف بعدم اعترافه بالأديان ولا سيما الإسلام ففي جوابه عن سؤال وجه إليه من محاوره[34] هل يندمج الإسلام في رأيك يوما في الثقافة الأوروبية ؟قال: لقد لجمنا في الغرب جماح المسيحية وأخذ منا ذلك من الوقت قرابة أربعة قرون كاملة فكم يلزم من الوقت للإسلام ليصحح نفسه ليتلاءم مع الحداثة هذا إذا فرضنا أنه سيسلك طريق المسيحية

ومما أثار دهشته أن ثورات الربيع العربي قد أحرق المتظاهرون فيها رموز السلطة كمقرات الأمن والمحاكم ولكنهم لم يحرقوا مسجدا واحدا بينما الثورات في أوروبا وأمريكا اللاتينية هدمت الكنائس وقتلت رجال الدين وهذا دليل على عدم معرفته بالإسلام واعتقاده الخاطئ أن الإسلام مثل المسيحية ويعتقد باسكال أن أوروبا في طريق الانتحار إذا لم تُعد النظر في فهمها للخطر الإسلاموي الذي يحدق بها[35]

وعلى الرغم من هذه الحملة الإعلامية المضللة الموجة ضد الإسلام والمسلمين بفرنسا فإن بعض الشخصيات المعتدلة رفضت سياسة الرئيس ماكرون متهمة إياه باتخاذ العلمانية ذريعة لاستهداف أحد مكونات المجتمع الفرنسي ومن هؤلاء الأكاديمي والاقتصادي (توماس بيكيتيThomas PIKETTY)[36]ا الذي قال: إن السياسيين في بلاده يستفيدون من الإرهاب لقمع المسلمين في البلاد وطالب بيكيتيوزير التعليم (بلانكي)والداخلية(جيراردارمانان) والمفكر (باسكال بروكنير)بإنهاء الخطابات العنصرية.

ومن الذين دافعوا بشراسة عن المسلمين بفرنسا في المنابر الإعلامية الفرنسية والأجنبية الفيلسوف (ميشال أونفري MichelONFRAY )[37]الذي أعلن رفضه للسياسة الفرنسية تجاه الإسلام والمسلمين في فرنسا والتي تريد أن تجعل الإسلام على المقاس الفرنسي مؤكدا على أن المسلمين في فرنسا أصبحوا يشكلون جزءا من التراث الفرنسي وأن الإسلام أصبح أحد أركان النسيج المجتمعي في فرنسا.[38]

كما أوضح السبب الذي جعل فرنسا تتعرض إلى حوادث إرهابية هو تدخلها العسكري في أرض إسلامية كالعراق وأفغانستان وليبيا فيما سماه أو نفري بالحروب الاستعمارية الجديدة وهو ما أدى بالإرهابيين إلى الانتقام من فرنسا لأنه من الخطأ أن يعتقد الساسة الفرنسيون أن الإسلام في فرنسا لا علاقة له بالإسلام العالمي.[39]

وفي سياق الرفض لسياسة ماكرون المعادية للإسلام والمسلمين بفرنسا قالت النائبة الفرنسية بالبرلمان الأوروبي (مانون أوبريManonAUBRY ): أن العلمانية ليست ذريعة ولا مبررا لإثارة الكراهية ضد المسلمين في الصباح والظهيرة والمساء.

وأعربت عن استنكارها لغلق الحكومة للجمعيات الإسلامية في البلاد معتبرة أنه لا يمكن محاربة الإرهاب بمعزل عن القواعد القانونية[40]

ولكن يبدو أن أصوات هؤلاء المعارضين للسياسة الفرنسية في موقفها من الإسلام والمسلمين في فرنسا كانت خافتة وغير مؤثرة وإنما الأصوات التي كانت أكثر صخبا هي أصوات السياسيين اليمينيين الباحثين عن النجاح في الانتخابات المعززة بإعلام متحيز لا يبحث عن الحقيقة وإنما يبحث عن نسبة المشاهدة ولذلك يكثر من صور العنف وكل ما يخلق الإثارة.

3-عجز فرنسا عن استئناف الحركة الاستعمارية:بعد خروج بريطانيا من أوروبا لم يبق لفرنسا أدنى وزن بالقياس إلى ألمانيا وحتى إيطاليا وإسبانيا لا يقبلان بقيادة فرنسا لأوروبا مما جعل الساسة الفرنسيون يشعرون بالعجز في استئناف الحركة الاستعمارية في سوريا وليبيا وهو ما خلق أزمة لدى هؤلاء الساسة وعلى رأسهم ماكرون ولذلك كان رده عنيفا على الإسلام السياسي ولو كان يتبع النهج الديمقراطي ويؤمن بالتعددية والتداول على السلطة متعمدا الخلط بينه وبين الإسلام السلفي والإسلام الراديكالي.

ومن خلال ما تقدم يتبن لنا أن الإرث التاريخي وما يحمله من حقد صليبي والإرث الثقافي وما يتضمنه من محاربة للدين وجعل العلمانية دينا مدنيا جديدا وفشل سياسي في الداخل (مشروع النظام الاجتماعي)وفشل في استئناف الحركة الاستعمارية في الخارج وتراجع الفرونكوفونية أمام الإنجليزية وانتقال مركز الجاذبية من حوض المتوسط إلى آسيا كل ذلك قد أناخ بكلكله على نفسية ماكرون مما أدى به إلى الوقوع في أزمة حادة لم يجد منفذا للخروج منها إلا بالتهجم على الإسلام والمسلمين ومن ناحية أخرى فإن المسلمين في فرنسا لا حامي لهم ولا مدافع عنهم وحتى بلدانهم فقد تخلت عنهم رغم الاستفادة منهم ولذلك فلا ينتظر من هذه البلدان ردود أفعال أو مواقف حازمة لأسباب لا يتسع المقام لذكرها.

أما الإسلام فلا حامي له ولا مدافع عنه إلا الله فهو الدين الوحيد المستهدف من قبل اليهود والمسيحيين والبوذيين والبرهميين فضلا عن الإيديولوجيات كالشيوعية والعلمانية والمادية وصدق الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في قوله:

       تعدو الذئاب على من لا كلاب له       وتتقي مربض المستنفر الحامي

آثارها:

لقد أحدثت حملة ماكرون على الإسلام والمسلمين في فرنسا ضجة كبيرة وردود أفعال غاضبة ولا سيما لدى المسلمين في فرنسا وفي العالم العربي والإسلامي كما أثارت اهتمام الإعلام في أوروبا وأمريكا حيث تناولتها صحف عديدة وقنوات تلفزية بالتعليق والتحليل ويمكن رصد هذه الاثار على الصعد التالية:

1)على الصعيد الداخلي:

ا- الانعزالية الإسلامية خلقتها الدولة ولم يخلقها المسلمونالفرنسيون :

إن الانعزالية الإسلامية التي تحدث عنها ماكرون لم يخلقها المسلمون الفرنسيون رغبة منهم في الانفصال عن المجتمع وإنما خلقتها الدولة فهي التي شيدت المساكن الاجتماعية للمهاجرين في ضواحي باريس وفي غيرها من المدن الفرنسية ولكنها بعد أن اكتظت بالسكان تخلت عنها ولم تهتم بها بل أهملتها وحرمتها من كل رعاية اجتماعية حتى صارت شبيهة بأحياء الزنوج في أمريكا، ونتيجة لهذا الإهمال تحولت هذه الأحياء إلى مشكلة أسمها (مشكلة الضواحي) في السياسة الداخلية الفرنسية جراء تفشي الانقطاع المدرسي والبطالة وانتشار الجريمة فضلا عن الشعور بالغبن والاغتراب والإحساس بأنهم فرنسيون ولكن من الدرجة الثانية.[41]

وقد أجرت صحيفة (القدس العربي) اللندنية تحقيقا حول أحياء المهاجرين في فرنسا استخلصت منه أن هذه الأحياء شبيهة بسجن ولكنه بدون قضبان وأنها عبارة عن قنابل موقوتة قابلة للانفجار وأنها أرض خصبة للتطرف.[42]

ولعل أبرز مشاكل هذه الأحياء هي ارتفاع نسبة البطالة بسبب التمييز العنصري، فقد أظهرت الإحصائيات أن معدل البطالة عموما 8% وعند المسلمين 14%وحتى إن تساوى المستوى التعليمي بين المسلم والمواطن الفرنسي فإن فرص العمل في الحصول على وظيفة تبقى أقل لوجود نوع من التمييز من أصحاب الأعمال بسبب المعتقد الديني[43]

وأمام هذا الوضع المزري لأحياء المهاجرين كان من الواجب أن يضع ماكرون خطة تستهدف إعادة تأهيل الأحياء في الضواحي وإيجاد حلول لمشاكلها المتراكمة إلا أنه ألقى باللائمة على سكانها واستثناهم من المجتمع ووصفهم بالانعزالية وألقى المسؤولية عليهم بدلا من أن يتحملها هو ولكن السياسة عندما تبتعد عن القانون الأخلاقي وتستند إلى القانون الطبيعي قانون الغرائز والأهواء تصير أداة إفساد وتدمير.

ب- حيرة ستة ملايين مسلم في فرنسا:

لقد أثارت تصريحات ماكرون والمسؤولين في حكومته حيرة ستة ملايين مسلم فرنسي ينبذون العنف ولا علاقة لهم بالإرهاب إلا انهم باتوا يخشون وصفهم بالإرهاب والأخطر من ذلك أن ماكرون قد صنفهم كمسلمين(انفصاليين)و(عدو من الداخل) وبناء على ذلك

فستقع معاملتهم حسب هذا المعيار الجديد ومن ثم فقد صاروا جميعا بين عشية وضحاها محل شبهة [44]

بل لقد أصبح الكثير منهم يتساءلون هل ستقبلهم الدولة وتعترف بهم؟ أو عليهم أن يستعدوا للمغادرة؟

ولكن الشيء الذي أحز في نفوس المسلمين الفرنسيين هو ازدواجية المعايير فقد نقلت نيويورك تايمز عن أستاذة جامعية مسلمة بإحدى الجامعات الفرنسية قولها:أن هناك ازدواجية في التعامل مع الحريات والمقدسات التي تمس المسلمينوقالت أن هناك قوانين دولية وأوروبية تضمن السلام الديني وعدم المساس بالمقدسات الدينية المختلفة لكن الحكومة في فرنسا تغض النظر وتدير ظهرها لهذه القوانين.

كما عبر محمد الغربي العضو المنتخب في اللجنة المركزية لحقوق الإنسان في باريس عن هذه الازدواجية بصورة أكثر وضوحا، إذ يرى أن الحكومة الفرنسة تكيل حرية التعبير بمكيالين فما يمس مشاعر المهاجرين والأجانب يعتبر حرية تعبير لكن ما يمس الجالية اليهودية مثلا يعد معاداة للسامية ويستوجب العقوبة [45]

ج-من معاداة السامية إلى معاداة العرب والمسلمين ثم الإسلام:

إن حملة ماكرون على الإسلام والمسلمين في فرنسا وما أججته من كراهية ضدهم جعلتهم يستحضرون ما حصل لليهود في فترة ما قبل النازية في أوروبا يوم أن كان المسيحيون يعادون اليهود عداء قويا باعتبارهم تآمروا على السيد المسيح ويتحملون مسؤولية صلبه ولذلك كانوا يلعنونهم في أدعيتهم في صلواتهم في الكنائس وإلى جانب هذا العداء التاريخي فإن اليهود انعزاليون بطبعهم ولا يندمجون في المجتمعات سواء أوروبية أو غيرها لتميزهم الديني والثقافي ولذلك اتهمهم الأوروبيون بأنهم يكونون دولة داخل دولة ولما نما عددهم وقوي نفوذهم المالي والسياسي ازدادت مخاوف الأوروبيون منهم وصاروا يخشون من أن يقوموا بتهويد أوروبا لا سيما وأوروبا كانت تعيش عمليات البناء القومي.

لكن هذه العداوة سرعان ما وقع تجاوزها ومحوها بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس دولة إسرائيل.

وقد لعب بابوات الفاتيكان دورا حاسما في اجتثاث هده العداوة حيث رفعوا اللعنة عنهم واعتبروهم إخوة الإيمان وذلك ليقيموا تحالفا ضد الإسلام.

واليوم نسمع نفس النغمة من الأوروبيين ولا سيما الفرنسيين (أسلمة أوروبا) وهو ما عبر عنه عالم الاجتماع الفرنسي البروفسور رفائيل لوبير في حواره مع وكالة الأناضول حول الرسوم الكاريكاتورية عن محنة اليهود بالأمس والمسلمين اليوم فقال: إن هذه الرسوم تمثل عدوانية وعنفا بالنسبة للمسلمين وإني أعتقد أن هذه الرسوم تحتوي على قاسم مشترك بين ما عاشه اليهود في ثلاثينات القرن الماضي وما يحدث للمسلمين اليوم.[46]

ومعنى ذلك أن هناك انتقالا من معاداة السامية إلى معاداة العرب والمسلمين ثم في النهاية معادة الإسلام.

د-معارضة العديد من الشخصيات العلمية والدينية والسياسية لسياسة ماكرون تجاه مسلمي فرنسا وإدانتهم للرسوم الكاريكاتورية:

لقد تعالت العديد من الأصوات لشخصيات مرموقة في الفكر والدين والساسة تعارض الرئيس ماكرون في حملته ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا واتهامه باتخاذ العلمانية ذريعة لاستهداف أحد مكونات المجتمع الفرنسي ومن هؤلاء الفيلسوف ميشال أونفري والاقتصادي توماس بيكيتي وعالم الاجتماع رفائيل لوبير وفرهات خسرو ورئيس أساقفة تولوز والنائبة بالبرلمان الأوروبي مانون أوبري وغيرهم فضلا عن العديد من الهيئات والجمعيات الممثلة للمسلمين التي أعربت عن مخاوفها من أن تزيد تصريحات الرئيس وخطته المرتقبة في انتشار خطاب الكراهية والخلط بين الدين الإسلامي وتصرفات المتطرفين.

2)على الصعيد الإعلامي:

لقد تابعت معظم وسائل الإعلام المقروءة والمرئية في عديد من بلدان العالم ولا سيما العربية والإسلامية فضلا عن الأوروبية تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون حول الإسلام والمسلمين بفرنسا ولكن اللافت للنظر هو أن الإعلام البريطاني كان أكثر اهتماما بهذه التصريحات وأشدها معارضة لها وكأنه يريد أن يرسل رسالة مفادها أن سياسة بريطانيا تجاه المسلمين المقيمين على أرضها مغايرة لسياسة فرنسا فهي تعاملهم كسائر البريطانيين بدون تمييز أو حيف وان مفهوم الاندماج عندها ليس الاستيعاب أو الذوبان كما تدعو إليه فرنسا وإنما الاعتراف بالقوانين وبالمؤسسات الديمقراطية مع المحافظة على معتقداتهم الدينية وخصوصيتهم الثقافية.

ومن أبرز الصحف البريطانية التي تناولت هذا الموضوع هي (رأي اليوم)و(والغارديان)و(فاينشيونالتاميز)[47]و(القدس العربي) والملاحظ أن هذه الصحف أجمعت على أن تصريحات الرئيس ماكرون شوهت سمعة المسلمين في فرنسا لغايات انتخابية وأن الرئيس ماكرون يتبنى سياسة تصنيع الخوف والاستثمار الانتخابي في (الإسلاموفوبيا)كما نقلت جريدة (القدس العربي)عن (نيويورك تايمز)مقالا مطولا عن حملة ماكرون ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا تحت عنوان (في فرنسا يتساءل المسلمون هل أصبح وجودهم مرفوضا او باتوا العدو من الداخل؟)

ولم يقتصر الاهتمام بتصريحات ماكرون على الصحف فقط بل اهتمت بهاالعديد من القنوات التلفزية مثل B.B.C ،C .N.N arbic، وأوربيت والعربية غير أن أكثر القنوات تركيزا على هذا الموضوع هي قناة الجزيرة إذ تناولته في العديد من برامجها إلى جانب استضافتها للرئيس ماكرون وإجراء حوار معه والذي تراجع فيه عن أقواله متهما الإعلام بأنه حرف كلامه.

والحقيقة أن الإعلام لم يكذب عليه وإنما هو الذي عدّل في كلامه لآن الجمهور الذي سيخاطبه من الجزيرة ليس جمهورا فرنسيا وإنما هو جمهور عربي إسلامي غاضب وداع إلى مقاطعة المنتوجات الفرنسية.

3)على الصعيد الخارجي:

لقد أثارت حملة الرئيس الفرنسي ماكرون على الإسلام والمسلمين في فرنسا ردود أفعال سواء في العالم العربي والإسلامي او في أوروبا وأمريكا ويمكن تصنيف هذه الردود فيما يلي:

أ-على مستوى رؤساء الدول:

كان لتصريحات ماكرون حول الرسوم الكاريكاتورية والإسلام بصفة عامة ردات فعل عديدة من قبل رؤساء الدول سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين.

من ذلك أن رئيس الوزراء الكندي جاستنترودوJustin TRUDEAUعلق على إصرار ماكرون على نشر الصور الكاريكاتورية بقوله:( إن حرية التعبير ليست بلا حدود ويجب أن لا تتسبب في إساءة لفئات بعينها)

كما أدان العملية الإرهابية التي جدت في نيس مبينا أن الإرهابيين لا يمثلون الإسلام ولا المسلمين في كندا أو فرنسا أو في أي مكان حول العالم.[48]

ورد الرئيس التركي أردوغان على حملة ماكرون ردا قويا حيث قال: إن حديث ماكرون عن إعادة تشكيل الإسلام قلة أدب ويدل على عدم معرفته لحدوده مشيرا إلى أن الذين يتهربون من مواجهة العنصرية وكراهية الإسلام يرتكبون أكبر إساءة لمجتمعاتهم[49]

وفي هذا السياق قالوزير الأوقاف الأردني:الإساءة للنبي محمد وللأنبياء جميعا ليست حرية شخصية وإنما جريمة تشجع على العنف[50]

ب-على صعيد المؤسسات والهيئات الدينية الرسمية والعالمية:

لقد اتخذ مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر موقفا واضحا وصريحا من حملة ماكرون على الإسلام والمسلمين في فرنسا واصفا إياها بأنها دعوة للعنصرية وأنها -حسب رأيه-تنسف كل الجهود المشتركة للقضاء على العنصرية والتنمر ضد الأديان. [51]

كما ندد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بما جاء في تصريحات ماكرون من تهجم على الإسلام والمسلمين في فرنسا موضحا أن المقتنعين بالإسلام يزدادون كل يوم (وأن الإسلام ليس في أزمة وإنما الأزمة في الجهل بمبادئه وحقائقه والحقد عليه وعلى أمته فهي أزمة فهم وأزمة أخلاق)

وأكد الاتحاد على أن مثل هذه التهجمات غير المبررة والسماح بالاعتداء على مقدسات الإسلام تحت غطاء الحرية (هي التي تصنع الإرهاب والعنصرية الدينية وتحول دون التعايش السلمي القائم على احترام جميع الديان وخصوصيتها)[52]

النتائج: يمكن أن نستنتج مما تقدم النتائج التالية:

1-إن حملة ماكرون على الإسلام والمسلمين في فرنسا هي حملة سياسية مصطنعة ومخطط لها لتحقيق عدة أهداف أبرزها إزالة المشهد الديني من حياة ستة ملايين مسلم في فرنسا باسم حماية العلمانية وقيم الجمهورية فضلا عن استمالة الناخبين من اليمين واليمين المتطرف وكسب أصواتهم والفوز بالانتخابات المقبلة.

2-إن الاستثمار الانتخابي من قبل ماكرون في الإسلاموفوبيا خطأ جسيم وله عواقب جد وخيمة لأنه قائم على خلق عدو وهمي لا وجود له وقد يلهي الساسة عن معالجة المشاكل الحقيقية للمجتمع الفرنسي ثم إنه ليس من السهل عزل ستة ملايين مسلم عن المجتمع الفرنسي وفرض قيود صارمة عليهم من دون أن يحدث ذلك ردود أفعال انتقامية.

3-إن الانسجام بين فئات المجتمع المختلفة لا يصنع بالقوة والاندماج لا يتحقق بالإرغام أو التضييق على الحريات وإنما يتحقق بالعدالة والمساواة وإزالة أسباب الكراهية والعنصرية.

4-إذا كان سبب الأزمة سياسيا فالخروج منهالا يكون إلا سياسيا وذلك بأن ينتخب للرئاسة رئيسا يؤمن بان السلم الاجتماعي أهم من المكاسب السياسية فيرفع عن المسلمين العزلة ويجعلهم مواطنين كسائر المواطنين الفرنسيين ويوطن التعايش الإيجابي والانسجام بين أفراد المجتمع بدل العنصرية والكراهية ولكن هذا الحل يبدو بعيد المنال على الأقل في المدى القريب والشجرة لا تلام على ثمرتها الطبيعية إذا لم يقع تطعيمها.

5-إن إصرار ماكرون على إعادة نشر الصور الكاريكاتورية وادعائه بأنه سيصلح الإسلام إساءة لأكثر من مليار مسلم وهو ما سيفتح باب العنف والإرهاب والصراع بين الأديان على مصراعيه وهو ما حذر منه المصلح الديني والعالم اللاهوتي الكبير هانز كونغ حين قال :(لا سلم بين الشعوب بدون سلم بين الأديان).

                                         الدكتور سليمان الشواشي

                                أستاذ سابق في الجامعة الزيتونيةتونس

 

 

 

 

[1]- ماكرون والإسلام، الإنترنت

[2] - قال وزير التعليم: بلانكير في تصريح لإحدى المحطات الإذاعية: إن اليسارية الإسلاموية موجودة بالجامعات والنقابات مثل الاتحاد الوطني للطلبة وأنها تلحق أضرارا بتلك الأماكن (ماكرون والإسلام) الإنترنت

[3] - قال وزير الداخلية جرار دارمانان : إن مضايقة الإسلام الراديكالي أولوية وطنية بالنسبة لفرنسا

[4]- ماكرون والإسلام: الأنترنت

[5] انظر بحث هذه القضية: كتاب الفكر الإصلاحي عند الأفغاني وعبده وأثره في الفكر الإصلاحي التونسي لصاحب المقال دار  سحنون للنشر، تونس، 1438هـ=2017م، ص 120

[6] - قام المعهد الكاثوليكي في باريس i c p بالاشتراك مع جامعة سانت ماري الكاثوليكية في لندن بدراسة  في 23مارس 2018 حول الدين في فرنسا كشفت عن أن 64%  لا يتبعون أي دين وأن 23% قالوا أنهم كاثوليك و10%  قالوا أنهم مسلمون وانظر أيضا الدين في فرنسا موسوعة ويكيبيديا حيث أوردت أرقاما قريبة جدا من هذه الأرقام

[7]- انظر مقال، سليمان الشواشي: الإسلام واحدا وليس متعددا، مجلة (الهداية) تونس، عدد202، جويلية-أوت- سبتمبر-2017

[8] - نيويورك تايمز، 30 أكتوبر 2020ترجمة القدس العربي لندن الإنترنت (في فرنسا يتساءل المسلمون هل أصبح وجودهم مرفوضا؟

[9]- م    ،     ن

[10]- المسلمون في فرنسا، تسريبات ويكيليكس، الإنترنت  

[11]- مصطفى خالدي وعمر فروخ: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، المكتبة العصرية، بيروت ، 1372هـ=1953م، ص 115 

[12]-  السيوطي: تاريخ الخلفاء، دار الفكر، بيروت،1394هـ=1974م،ص 115

[13]- البشير الشريف: صفحات من تاريخ تونس الحديث والمعاصر، دار سحنون للنشر، تونس،1440هـ=2019م ص 58

[14] -       م       ،      ن

[15] -اسمهAnne  Jean Marie Rene SAVARY  عين في عام 1832 في منصب الحاكم العام للجزائر اشتهر بالقسوة والشدة في مقاومته للرافضين للاحتلال حيث أباد قبائل برمتها، موسوعة ويكيبيديا 

[16] - خلد تلك الأحداث الفاجعة شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء في (إلياذة الجزائر) ، عز الدين عناية :مقال المسيحية في بلاد المغرب الوقائع والمصائر، مجلة (الهداية) عدد202، سبتمبر2017ص 15

[17]- جلال العالم: دمروا الإسلام، ص 50

[18] - محمد الفاضل ابن عاشور: الحركة الأدبية والفكرية في تونس، الدار التونسية للنشر،1983م، ص213

[19]- عز الدين عناية: المسيحية في بلاد المغرب، مجلة (الهداية) تونس، عدد202، سبتمبر2017، ص18

[20] - ريم الغانمي: الحضور المسيحي في تونس ص 101

[21] -  جلال العالم: دمروا الإسلام، ص 49

[22]- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، مصر،1966، ص 123

[23] - ترجمة إمام عبد الفتاح ، ط2، بيروت،1981، ج1، ص 160

[24] - محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده،2/409 ، محمد البهي: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار، ص 53

[25] - محمد جلال كشك: طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية، مؤسسة دار المختار الإسلامي للطباعة والنشر، 1974، ص20

[26] - نشر هذا الحوار ومعه حوار آخر مع الفيلسوف الإنجليزي برتراند روسل في كتاب عنوانه (حوار مع برتراند راسل وسارتر)عن سلسلة (اقرأ)1968

[27]- مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص38

[28]-Historien dirige les travaux d’uneencyclopédieLa colonisation française dont le premier tome est paruen fevrier2017

وأيضا موقع اوريون 21، والجزيرة نت الإسلاموقوبيا20/3/2019

[29] - الهادي التيمومي: مقدمة كتاب المعهد الإسلامي وجامع باريس ، للمؤلف التليلي العجيلي، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم،2016 ،ص 5

[30]-     م      ،      ن

[31]-بدأ جلب العمال الجزائريين إلى فرنسا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وازداد هذا النسق على أثر الحرب العالمية الأولى والتي استجلبت فيها اليد العاملة من المغرب العربي

[32] -عبد الباقي خليفة: تنامي ظاهرة العنصرية ضد المسلمين في فرنسا ،جريدة (الرأي العام) التونسية 11/7/2019

[33]- باسكال بروكنير: ولد في 15مارس 1948 بباريس ، روائي وكاتب فرنسي حصل على جائزة رينودو الأدبية عام  1977له مؤلفات عديدة منها (نحيب الرجل الأبيض)1983 ،( وطغيان الكفارة)2006 موسوعة ويكيبيديا

[34]- المحاور مراسل طنجة الأدبية الإنترنت

[35] -     م    ،     ن

[36] - ولد في 7ماي 1971بكليشي بفرنسا ألف كتاب (الرأسمال في القرن 21) في سنة 2013والذي أثار جدلا واسعا في العالم

[37]- ولد ميشال أو نفري في 1 جانفي 1959ب(اورون) بفرنسا أسهم بصفة جدية في الفلسفة الفرنسية المعاصرة ويعتبر ميشال أونفري امتدادا لفلاسفة ما بعد الحداثة له مؤلفات غزيرة وهو من وجوه اليسار المعادي للبرالية (موسوعة ويكيبيديا)

[38]-حوار الصحافية الجزائرية أسماء كوار مع الفيلسوف ميشال أونفري والذي تم نشره في كتاب بالفرنسة عنوانه(التفكير في الإسلامPENSER L ISLA M)

[39]-        م        ،        ن

[40]- ماكرون والإسلام، الإنترنت

[41]- انظر كتاب (فرنسا الضواحي، أحياء المهاجرين)جاك دونزيلو، باريس 2013

[42]- القدس العربي:3/1/2015

[43]- تقرير(المسلمون في أوروبا)اندماج أكثر ولكن دون قبول مجتمعي. نشر في 28/7/2017 ، من قبل معهد BERTELSMANN STI  FTUNG الألماني

[44]- نيويورك تايمز: نقلا عن صحيفة القدس العربي 30أكتوبر 2020

[45]-       م       ،        ن

[46]- الإنترنت رفائيل لوبير

[47]- انظر رد ماكرون على فاينشيونال تايمز الإنترنت

[48]-رئيس وزراء كندا جاستن ترودو الإنترنت

[49]- ماكرون والإسلام الإنترنت

[50]-     م      ،      ن

[51]- موقف الأزهر من ماكرون:الإنترنت،4/10/2020

[52] انظر بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بشأن تصريحات ماكرون حول الإسلام والمسلمين في فرنسا، 3/10/2020 الإنترنت

أهم أخبار