تمهيد:
العملة العراقية المُصدَرة، هي الأوراق النقدية التي أصدرها البنك المركزي للتداول (أي: طبعها)، باستثناء النقد في خزائن البنك المركزي، وتتواجد، عادةً، في خزائن البنوك المحلية، وفي حيازة المواطنين، ويعتمد حجم هذه الكتلة النقدية على الوضع الاقتصادي في العراق، من حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي، وسرعة التداول النقدي، ومستوى الأسعار فيه، إلا أن البيانات النقدية للبنك المركزي العراقي تؤكد أن زيادة حجم الكتلة النقدية المصدرة، لا تقع تحت تأثير العوامل الاقتصادية المعتادة، والتي تم ذكرها آنفا، وإنما يتحكّم بها المزاج السياسي، والتوجهات العشوائية للسياسة النقدية التي ينتهجها البنك المركزي ووزارة المالية، رغم ادّعاء البنك المركزي بأن كميات العملة العراقية تُطبَع وفق احتياجات الاقتصاد العراقي وضمن معايير مُحكَمة.
ولو ألقينا نظرة على حجم النقد المصدر في الأعوام السابقة ولغاية هذا العام، وحسب بيانات البنك المركزي العراقي، لوجدنا زيادة مُطّرِدة غير طبيعية في حجم طباعة الدينار العراقي، لا تتناسب البتّة مع حاجة الاقتصاد العراقي ونموه، بالأخص في السنوات الخمس الأخيرة، والتي سُجِّلت في الثلاثة الأخيرة منها الذروةُ في الطباعة.
البيانات النقدية:
أظهرت بيانات إصدار وطباعة الدينار العراقي، حسب الأعوام، ما يلي:
كانون الثاني/ 2004م: 6 تريليون و189 مليار دينار
ك 2/ 2013م: 36 تريليون و845 مليار دينار
ك 2/ 2014م: 40 تريليون و786 مليار دينار
ك 2/ 2019م: 44 تريليون و374 مليار دينار
ك 2/ 2020م: 51 تريليون و964 مليار دينار
ك 2/ 2021م: 68 تريليون و948 مليار دينار
ك 2/ 2022م: 78 تريليون و206 مليار دينار
ك 2/ 2023م: 93 تريليون و511 مليار دينار
تشرين الثاني/ 2023م: 102 تريليون و601 مليار دينار
الدينار العراقي لدى المصارف العراقية في تشرين الأول/2023م: 9 تريليون 37 مليار دينار
المصدر: موقع البنك المركزي العراقي/ الموقع الإحصائي/ القطاع النقدي، www.cbi.iq
الملاحظات:
1- تم إصدار حوالي 40 تريليون دينار خلال فترة 10 سنوات، من ك 2/2004م، ولغاية ك 2/2014م، وهي الفترة ما بعد الاحتلال، إذ تمت طباعة عملة عراقية جديدة، وجاءت هذه الطباعة لتلبية حاجة السوق، وفق الضوابط والآليات الاقتصادية المتبعة بهذا الخصوص.
2- بلغ حجم الإصدار حوالي 44 تريليون دينار في ك 2/ 2019م، أي: بفارق 4 تريليون دينار عراقي عن الفترة بين ك 2/ 2014م وك 2/ 2019م، والتي استغرقت 5 سنوات، بمعدل نمو حوالي 10%، وحجم الإصدار هذا هو حجم الطباعة مطروح منه حجم الإتلاف، وتتناسب هذه الزيادة المحدودة في الإصدار مع الواقع الاقتصادي الذي مرَّ به العراق بسبب أزمة داعش.
3- من بداية 2019م ولغاية البدء بعام 2020م، وهي الفترة بين خروج العراق من أزمة داعش ودخوله في جائحة الكورونا (كوفيد19)، والتي هي فترة الركود الاقتصادي في العراق، ارتفع حجم إصدار الدينار من حوالي 44 تريليون، إلى حوالي 52 تريليون دينار، وبفارق حوالي 7.5 تريليون دينار، وقد يكون سبب اللجوء إلى هذا الحجم من الإصدار هو تنامي ميول الاكتناز لدى المواطنين، بسبب الكورونا، وارتفاع معدلات التهريب إلى الخارج، مما أدى إلى تقليل الكتلة النقدية في الأسواق، وتزايد الطلب الحكومي على الدينار لغرض الانفاق العام.
4- يُعتبَر عام 2020م عام الجائحة، والركود الاقتصادي، إذ فرضت الحكومة الإغلاقَ الاقتصادي، وانخفض سعر النفط العراقي إلى ما دون 20 دولارا، فاضطرت الحكومة في نهايته (شهر ديسمبر) إلى اتخاذ قرار انكماش الدينار من 1190 دينار للدولار، إلى 1460 دينار، ويبدو أن هذا الإجراء لم يكن كافيا لسدّ عجز الموازنة العامة، فقامت الحكومة بطباعة كميات كبيرة من الدنانير، حتى بلغ حجم الإصدار 69 تريليون دينار مع بداية عام 2021م، وهذا يعني طباعة حوالي 17 تريليون دينار خلال عام 2020م.
5- اتَّسمَتِ الأعوام الثلاثة، من 2021م، ولغاية نهاية 2023م، بالإفراط في إصدار وطباعة العملة المحلية، إذ ارتفع حجم الإصدار من حوالي 69 تريليون دينار في ك 2/ 2021م، إلى حوالي 102 تريليون دينار في تشرين الثاني/ 2023م، بزيادة حوالي 33.5 تريليون، وهي الأعوام التي تلت قرار انكماش الدينار العراقي، وتزامنت مع فرض المنصة الإلكترونية على البنك المركزي العراقي، من قبل مكتب مكافحة الجرائم المالية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، التي قيدت تحويل الدولار الذي كان يُهرَّب إلى دول الجوار، وعلى رأسها إيران، من خلال تحويلات البنك المركزي الخارجية، الأمر الذي أدّى إلى توجُّه عمليات التهريب إلى الأسواق المحلية، فتسبب ذلك بخلل كبير، ومزمن لسعر صرف الدولار في العراق، والذي لا يزال العراق يعاني منه.
6- جاءت طباعة الدينار، بهذا الكم الهائل، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، في ظلّ الظروف الآنفة الذكر، لتُلبّيَ حاجة السوق، ولتَتداركَ النقص في العملة المحلية، التي جاء الضغط عليها، بسبب قرار الانكماش من جهة، وعمليات التهريب من جهة أخرى، فأضافت سببا آخر لارتفاع معدلات التضخم في العراق، ولم تأت هذه الطباعة بسبب سرعة التداول ودوران العملة، لتلبية حاجات التنمية والإنتاج، وهذه هي معضلة اقتصادية بحد ذاتها.
7- حجم الكتلة النقدية المصدرة في تشرين 2/ 2023م هو حوالي 102 تريليون دينار، وحجم ما لدى المصارف منه هو حوالي 9 تريليون في تشرين 1/2023م.. هذا يعني أنه هناك حوالي 93 تريليون دينار في حيازة المواطنين، ولدى الأسواق، وقد ظهرت تقارير وأخبار، في الآونة الأخيرة، تشير إلى فقدان تريليونات من الدنانير العراقية من الأسواق العراقية، وتهريبها إلى دول الجوار، إلا أن البنك المركزي العراقي نفى تلك الأخبار، وادّعى أن طبع العملة العراقية يجيء وفق احتياجات الاقتصاد العراقي وضمن معايير مُحكَمَة، وهو ما يتنافى مع واقع الحال.. فهناك نقص فعلي في الكتلة النقدية العراقية في الأسواق المحلية، ولدى البنك المركزي أيضا، بدليل تأخيره إرسال مستحقات إقليم كردستان بسبب العجز في توافر الكتلة النقدية المحلية لديه، ولا تأتي طباعة النقد وفق احتياجات الاقتصاد العراقي، كما يدعي البنك المركزي، إذ لم يشهد الاقتصاد نموا في الناتج المحلي الإجمالي بموازاة ارتفاع مستويات طباعة العملة، ولم تشهد الأسواق المحلية نشاطا اقتصاديا ملموسا بالتزامن مع هذه الزيادة المطّردة في طباعة الدينار، بل العكس هو حال الأسواق، فهي تعاني من قلة النقد، وقلة تداوله، وعليه، فالبنك المركزي لا يقوم بطباعة الدينار لحاجات اقتصادية محلية، وإنما لتدارك العجز الذي ينجم عن عمليات التهريب، التي يُعَدُّ هو، في الأساس، المسبب الرئيسي في تنفيذها واستدامتها، دون اتخاذ إجراءات حقيقية رادعة لاستئصالها.
8- أسباب قلة الكتلة النقدية المحلية في الأسواق العراقية عديدة، يأتي التهريب إلى دول الجوار، وبالأخص إيران، على رأس تلك الأسباب، وبالتزامن مع تهريب الدولار، وذلك لإكمال دورة التهريب، من دون الحاجة إلى مبادلتهما بالسلع والمنافع من خارج القطر. كما أن التضخم وانكماش العملة المحلية، يدفع المواطن إلى البحث عن ملاذ آمن لمُدَّخراته من الدنانير، بغية حمايتها وجني الأرباح، فيقوم بشراء الدولار، أو الذهب واكتنازه، أو يقوم بالاستثمار في البورصات والعملات المشفرة، وغيرها، وهو ما لم يكن من عادات العراقيين الاقتصادية سابقا، بسبب استقرار سعر صرف العملة المحلية في حينه، ولعل الأخطر في هذا المجال، هو دخول المواطن في دوامة "تضخم التوقع"، فكلما أحس المواطن بأن عملته المحلية ستفقد قدرتها الشرائية بمرور الزمن، فإنه سيعيش توقعات مستقبلية بانكماش الدينار، فيلجأ إلى التحوط، والتخلص من كتلته النقدية المحلية باستمرار، وهذا سيتسبب في انكماش مزمن للدينار وارتفاع مزمن ومستمر للتضخم، وأسعار السلع والمنافع، وهذه هي المعضلة الأشد وطأة في اقتصادات العالم: أن يكون التضخم مزمنا، وهيكليا، إذ سيدفع الاقتصاد إلى ركود تضخمي مزمن، يصعب معالجته في المدى المنظور.
الخاتمة
بدأت طباعة العملة المحلية (الدينار العراقي) منذ إعادة هيكلة البنك المركزي بعد الاحتلال، وكانت تجري وفق حاجات اقتصاد العراق في بداياتها، إلا أن الطباعة تزايدت بسرعة واطراد في السنوات الخمس الأخيرة، ليس تلبية لحاجات الاقتصاد، وإنما توفيرا لكتلة نقدية مُعدَّة للتهريب، وعلى مرأى ومسمع الحكومة وإدارتها المالية.
تعرض الدينار للانكماش بسبب تهريب الدينار والدولار، فأثقل ذلك كاهل الاقتصاد العراقي، وعرّضه لتضخم مزمن، اصطنع لدى المواطن توقعا منفيا عن عملته المحلية، وصار يسعى للتخلص منها، بتوظيفها في ملاذات آمنة، فتغير بذلك طبعه الذي كان قد ألفه سابقا، حينما كان يكتنز الدينار ويدّخره، لقوته واستقراره.
استمرار عمليات التهريب يجلب معه تزايدا مُفرَطا لطباعة الدينار، الذي سيعاني من انكماش ملحوظ، ومزمن، بالتزامن مع ارتفاع معدلات الأسعار والتضخم، في ظل اقتصاد راكد، لا يُزَجُّ النقد فيه لأجل التنمية والإنتاج، بل لتبادلات نقدية تستهدف الربح من خلال عمليات تهريب منظمة، شبه رسمية.. هذا الوضع سيخلق حالة تعايش للمواطن مع عملته المحلية التي يفقد الثقة بها، وهذا المسلك واضح التوجه، فهو يسير نحو ركود تضخمي.
أوصي بالتوقف عن طباعة العملة المحلية، والتخطيط لسحب الزائد منها في الأسواق المحلية، واتخاذ خطوة جريئة وواضحة وفورية، لمنع تهريب الدولار والدينار إلى دول الجوار، وبالأخص إلى إيران، والكفّ عن اتخاذ الإجراءات الكارتونية التي تُستخدَم للتغطية على عمليات فساد كبرى، تحت غطاء معالجة المشاكل النقدية والمالية في العراق، والاكتفاء بهذا القدر من الضحك على ذقون العراقيين، والالتفات إلى مصالح الشعب.
شوان زنكنة
ماجستير اقتصاد إسلامي
مستشار شرعي